سورة الزمر - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


لما ذكر سبحانه الآخرة، ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها، والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا، ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها، والنفرة منها، فذكر تمثيلاً لها في سرعة زوالها، وقرب اضمحلالها مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة، وصنعه البديع، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} أي: من السحاب مطراً {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض} أي: فأدخله، وأسكنه فيها، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع، والينبوع عين الماء، والأمكنة التي ينبع منها الماء، والمعنى: أدخل الماء النازل من السماء في الأرض، وجعله فيها عيوناً جارية، أو جعله في ينابيع، أي: في أمكنة ينبع منها الماء، فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض. قال مقاتل: فجعله عيوناً، وركايا في الأرض {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} أي: يخرج بذلك الماء من الأرض زرعاً مختلفاً ألوانه من أصفر، وأخضر، وأبيض، وأحمر، أو من برّ، وشعير، وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف {ثُمَّ يَهِيجُ} يقال: هاج النبت يهيج هيجاً إذا تمّ جفافه. قال الجوهري: يقال: هاج النبت هياجاً: إذا يبس، وأرض هائجة يبس بقلها، أو اصفّر، وأهاجت الريح النبت أيبسته. قال المبرد: قال الأصمعي: يقال: هاجت الأرض تهيج: إذا أدبر نبتها، وولى. قال: وكذلك هاج النبت. {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي: تراه بعد خضرته، ونضارته، وحسن رونقه مصفرًّا قد ذهبت خضرته، ونضارته {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما} أي: متفتتاً منكسراً، من تحطم العود إذا تفتت من اليبس {إِنَّ فِى ذَلِكَ لذكرى لأُِوْلِى الألباب} أي: فيما تقدّم ذكره تذكير الأهل العقول الصحيحة، فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها، فيتفكرون، ويعتبرون، ويعلمون بأن الحياة الدّنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم، وقرب التقضي، وذهاب بهجتها، وزوال رونقها، ونضارتها، فإذا أنتج لهم التفكر، والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها، والميل إليها، وإيثارها على دار النعيم الدائم، والحياة المستمرة، واللذة الخالصة، ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث، والحشر، لأن من قدر على هذا قدر على ذلك. وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن، ولصدور من في الأرض. والمعنى: أنزل من السماء قرآناً، فسلكه في قلوب المؤمنين، ثم يخرج به ديناً بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن، فيزداد إيماناً ويقيناً، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع، وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير. قرأ الجمهور: {ثم يجعله} بالرفع عطفاً على ما قبله، وقرأ أبو بشر بالنصب بإضمار أن، ولا وجه لذلك.
ثم لما ذكر سبحانه أن في ذلك لذكرى لأولي الألباب، ذكر شرح الصدر للإسلام، لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به، فقال: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} أي: وسعه لقبول الحقّ، وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير.
قال السدّي: وسع صدره للإسلام للفرح به، والطمأنينة إليه، والكلام في الهمزة، والفاء كما تقدم في: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} [الزمر: 19]، ومن مبتدأ، وخبرها محذوف تقديره كمن قسا قلبه، وحرج صدره، ودلّ على هذا الخبر المحذوف قوله: {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ} والمعنى: أفمن وسع الله صدره للإسلام، فقبله، واهتدى بهديه {فَهُوَ} بسبب ذلك الشرح {على نُورٍ مّن رَّبّهِ} يفيض عليه كمن قسا قلبه لسوء اختياره، فصار في ظلمات الضلالة، وبليات الجهالة. قال قتادة: النور كتاب الله به يؤخذ، وإليه ينتهي. قال الزجاج: تقدير الآية: أفمن شرح الله صدره كمن طبع على قلبه، فلم يهتد لقسوته {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله} قال الفراء، والزجاج: أي عن ذكر الله كما تقول: أتخمت عن طعام أكلته، ومن طعام أكلته، والمعنى: أنه غلظ قلبه، وجفا عن قبول ذكر الله، يقال: قسا القلب إذا صلب، وقلب قاس، أي: صلب لا يرقّ، ولا يلين. وقيل: معنى من ذكر الله من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور، وتطمئن به القلوب. والمعنى: أنه إذا ذكر الله اشمأزوا، والأول أولى، ويؤيده قراءة من قرأ عن ذكر الله، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى القاسية قلوبهم، وهو: مبتدأ، وخبره {فِى ضلال مُّبِينٍ} أي: ظاهر واضح.
ثم ذكر سبحانه بعض أوصاف كتابه العزيز، فقال: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} يعني: القرآن، وسماه حديثاً؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدّث به قومه، ويخبرهم بما ينزل عليه منه. وفيه بيان أن أحسن القول المذكور سابقاً هو: القرآن، وانتصاب {كتابا} على البدل من أحسن الحديث، ويحتمل أن يكون حالاً منه {متشابها} صفة ل {كتاباً}، أي: يشبه بعضه بعضاً في الحسن، والأحكام، وصحة المعاني، وقوة المباني، وبلوغه إلى أعلى درجات البلاغة، وقال قتادة: يشبه بعضه بعضاً في الآي، والحروف. وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه، و{مَّثَانِيَ} صفة أخرى لكتاباً، أي: تثنى فيه القصص، وتتكرر فيه المواعظ، والأحكام. وقيل: يثنى في التلاوة، فلا يملّ سامعه، ولا يسأم قارئه. قرأ الجمهور: {مثاني} بفتح الياء، وقرأ هشام عن ابن عامر، وبشر بسكونها تخفيفاً، واستثقالاً لتحريكها، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هو مثاني، وقال الرازي: في تبيين مثاني أن أكثر الأشياء المذكورة في القرآن متكرّرة زوجين زوجين مثل الأمر والنهي والعامّ والخاصّ، والمجمل والمفصل، وأحوال السماوات والأرض، والجنة والنار، والنور والظلمة، واللوح والقلم، والملائكة والشياطين، والعرش والكرسي، والوعد والوعيد، والرجاء والخوف، والمقصود من ذلك البيان: بأن كلّ ما سوى الحقّ زوج، وأن الفرد الأحد الحقّ هو: الله، ولا يخفى ما في كلامه هذا من التكلف، والبعد عن مقصود التنزيل {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} هذه الجملة يجوز أن تكون صفة ل {كتاباً}، وأن تكون حالاً منه، لأنه وإن كان نكرة، فقد تخصص بالصفة، أو مستأنفة لبيان ما يحصل عند سماعه من التأثر لسامعيه، والاقشعرار التقبض، يقال: اقشعرّ جلده: إذا تقبض، وتجمع من الخوف.
والمعنى: أنها تأخذهم منه قشعريرة. قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرّت جلود الخائفين لله {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} إذا ذكرت آيات الرحمة. قال الواحدي: وهذا قول جميع المفسرين، ومن ذلك قول امرئ القيس:
فبتّ أكابد ليل التمام *** والقلب من خشية مقشعر
وقيل: المعنى: أن القرآن لما كان في غاية الجزالة، والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرّت الجلود منه إعظاماً له، وتعجباً من حسنه، وبلاغته ثم تلين جلودهم، وقلوبهم {إلى ذِكْرِ الله} عدّى تلين بإلى لتضمينه فعلاً يتعدّى بها، كأنه قيل: سكنت، واطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة، ومفعول ذكر الله محذوف، والتقدير: إلى ذكر الله رحمته، وثوابه، وجنته، وحذف للعلم به. قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم بأنها تقشعرّ جلودهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو: من الشيطان، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الكتاب الموصوف بتلك الصفات، وهو: مبتدأ، و{هُدَى الله} خبره، أي: ذلك الكتاب هدى الله {يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء} أن يهديه من عباده. وقيل: إن الإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما وهبه الله لهؤلاء من خشية عذابه، ورجاء ثوابه {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي: يجعل قلبه قاسياً مظلماً غير قابل للحقّ {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى الحق، ويخلصه من الضلال. قرأ الجمهور: {من هاد} بغير ياء. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن بالياء.
ثم لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا، وهو: الضلال، حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر، وهو: العذاب، فقال: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب يَوْمَ القيامة} والاستفهام للإنكار، وقد تقدّم الكلام فيه، وفي هذه الفاء الداخلة على من في قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} [الزمر: 19]، ومن مبتدأ، وخبرها محذوف لدلالة المقام عليه، والمعنى: أفمن شأنه أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده قد صارت مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه شيء من ذلك، ولا يحتاج إلى الاتقاء. قال الزجاج: المعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة. قال عطاء، وابن زيد: يرمى به مكتوباً في النار، فأوّل شيء تمس منه وجهه.
وقال مجاهد: يجرّ على وجهه في النار.
قال الأخفش: المعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد؟ مثل قوله: {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة} [فصلت: 40]، ثم أخبر سبحانه عما تقوله الخزنة للكفار، فقال: {وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}، وهو معطوف على يتقي أي: ويقال لهم، وجاء بصيغة الماضي للدّلالة على التحقيق. قال عطاء: أي: جزاء ما كنتم تعملون، ومثل هذه الآية قوله: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35]، وقد تقدّم الكلام على معنى الذوق في غير موضع.
ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار، فقال: {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: من قبل الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أنهم كذبوا رسلهم {فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وذلك عند أمنهم، وغفلتهم عن عقوبة الله لهم بتكذيبهم {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى} أي: الذلّ، والهوان {فِي الحياة الدنيا} بالمسخ، والخسف، والقتل، والأسر، وغير ذلك {وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ} لكونه في غاية الشدّة مع دوامه {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: لو كانوا ممن يعلم الأشياء، ويتفكر فيها، ويعمل بمقتضى علمه. قال المبرّد: يقال: لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته، أي: وصل إليها كما تصل الحلاوة، والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي المكروه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} الآية قال: ما في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض} فمن سرّه أن يعود الملح عذباً، فليصعده.
وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} قال: أبو بكر الصديق.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ} قلنا: يا نبيّ الله كيف انشراح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح، وانفسح» قلنا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت» وأخرجه ابن مردويه عن محمد بن كعب القرظي مرفوعاً مرسلاً.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر: أن رجلاً قال: يا نبيّ الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكراً للموت وأحسنهم له استعداداً، وإذا دخل النور في القلب انفسح، واستوسع» فقالوا: ما آية ذلك يا نبيّ الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» وأخرجه عن أبي جعفر عبد الله بن المسور، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، وزاد فيه: ثم قرأ: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ}.
وأخرج الترمذي، وابن مروديه، وابن شاهين في الترغيب في الذكر، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: قال رسول الله: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله لو حدّثتنا، فنزل: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} الآية.
وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: {مَّثَانِيَ} قال: القرآن كله مثاني.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: القرآن يشبه بعضه بعضاً، ويردّ بعضه إلى بعض.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: كتاب الله مثاني ثني فيه الأمر مراراً.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدّتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرءوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم، وتقشعرّ جلودهم، قلت: فإن ناساً ها هنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية، قالت: أعوذ بالله من الشيطان.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب} قال: ينطلق به إلى النار مكتوفاً، ثم يرمى به فيها، فأوّل ما تمسّ وجهه النار.


قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ} قد قدّمنا تحقيق المثل، وكيفية ضربه في غير موضع، ومعنى: {مِن كُلّ مَثَلٍ}: ما يحتاجون إليه، وليس المراد ما هو أعمّ من ذلك، فهو هنا كما في قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَئ} [الأنعام: 38] أي: من شيء يحتاجون إليه في أمر دينهم. وقيل: المعنى: ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظمون، فيعتبرون، وانتصاب {قُرْءاناً عَرَبِيّاً} على الحال من هذا، وهي حال مؤكدة، وتسمى هذه حالاً موطئة، لأن الحال في الحقيقة هو: عربياً، وقرآناً توطئة له، نحو جاءني زيد رجلاً صالحاً: كذا قال الأخفش، ويجوز أن ينتصب على المدح. قال الزجاج: عربياً منتصب على الحال، وقرآنا توكيد، ومعنى {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ}: لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه. قال الضحاك: أي غير مختلف. قال النحاس: أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك. وقيل: غير متضادّ. وقيل: غير ذي لبس. وقيل: غير ذي لحن. وقيل: غير ذي شك كما قال الشاعر:
وقد أتاك يقين غير ذي عوج *** من الإله وقول غير مكذوب
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} علة أخرى بعد العلة الأولى. وهي: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: لكي يتقوا الكفر، والكذب. ثم ذكر سبحانه مثلاً من الأمثال القرآنية للتذكير، والإيقاظ، فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} أي: تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها. ثم بيّن المثل، فقال: {رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون} قال الكسائي: نصب {رجلاً}؛ لأنه تفسير للمثل. وقيل: هو منصوب بنزع الخافض، أي: ضرب الله مثلاً برجل. وقيل: إن {رجلاً} هو المفعول الأوّل، و{مثلاً} هو المفعول الثاني، وأخر المفعول الأوّل؛ ليتصل بما هو من تمامه، وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة: «ياس»، وجملة: {فِيهِ شُرَكَاء} في محل نصب صفة لرجل، والتشاكس التخالف. قال الفراء: أي مختلفون.
وقال المبرد: أي متعاسرون من شكس يشكس شكساً، فهو: شكس مثل عسر يعسر عسراً، فهو: عسر. قال الجوهري: التشاكس الاختلاف. قال: ويقال: رجل شكس بالتسكين، أي: صعب الخلق، وهذا مثل من أشرك بالله، وعبد آلهة كثيرة. ثم قال: {وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ} أي: خالصاً له، وهذا مثل من يعبد الله وحده. قرأ الجمهور: {سلما} بفتح السين، واللام، وقرأ سعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو العالية بكسر السين، وسكون اللام. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والجحدري، وأبو عمرو، وابن كثير، ويعقوب: {سالماً} بالألف، وكسر اللام اسم فاعل من سلم له، فهو: سالم، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال: لأن السالم الخالص ضدّ المشترك، والسلم ضدّ الحرب، ولا موضع للحرب ها هنا، وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما، فالسلم، وإن كان ضدّ الحرب، فله معنى آخر بمعنى: سالم، من سلم له كذا: إذا خلص له.
وأيضاً يلزمه في سالم ما ألزم به، لأنه يقال: شيء سالم، أي: لا عاهة به، واختار أبو حاتم القراءة الأولى. والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة، أو على حذف مضاف، أي: ذا سلم، ومثلها قراءة سعيد بن جبير، ومن معه.
ثم جاء سبحانه بما يدلّ على التفاوت بين الرجلين، فقال: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}، وهذا الاستفهام للإنكار، والاستبعاد، والمعنى: هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة، ونياتهم متباينة يستخدمه كل واحد منهم، فيتعب، وينصب مع كون كل واحد منهم غير راضٍ بخدمته، وهذا الذي يخدم واحداً لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه، وإذا عصاه عفا عنه. فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا يقدر عاقل أن يتفوّه باستوائهما، لأن أحدهما: في أعلى المنازل، والآخر: في أدناها، وانتصاب مثلاً على التمييز المحول عن الفاعل؛ لأن الأصل هل يستوي مثلهما، وأفرد التمييز، ولم يثنه؛ لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبيناً للجنس، وجملة: {الحمد للَّهِ} تقرير لما قبلها من نفي الاستواء، وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به. ثم أضرب سبحانه عن نفي الاستواء المفهوم من الاستفهام الإنكاري إلى بيان أن أكثر الناس لا يعلمون، فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، وهم: المشركون، فإنهم لا يعلمون ذلك مع ظهوره، ووضوحه. قال الواحدي، والبغوي: والمراد بالأكثر الكلّ، والظاهر خلاف ما قالاه، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه، وعلوّ مكانه، وإن الشرك لا يمائله بوجه من الوجوه، ولا يساويه في وصف من الأوصاف، ويعلمون أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة، وأن الحمد مختصّ به.
ثم أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الموت يدركه، ويدركهم لا محالة، فقال: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} قرأ الجمهور: {ميت} و{ميتون} بالتشديد، وقرأ ابن محيصن، وابن أبي عبلة، وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق، واليماني: {مائت ومائتون}، وبها قرأ عبد الله بن الزبير.
وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته، وموتهم مستقبلاً، ولا وجه للاستحسان، فإن قراءة الجمهور تفيد هذا المعنى. قال الفراء: والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت، وسيموت، والميت بالتخفيف من قد مات، وفارقته الرّوح. قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليهم أنفسهم. ووجه هذا الإخبار الإعلام للصحابة بأنه يموت، فقد كان بعضهم يعتقد، أنه لا يموت مع كونه توطئة، وتمهيداً لما بعده حيث قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} أي: تخاصمهم يا محمد، وتحتجّ عليهم بأنك قد بلغتهم، وأنذرتهم، وهم يخاصمونك، أو يخاصم المؤمن الكافر، والظالم المظلوم.
ثم بيّن سبحانه حال كل فريق من المختصمين، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له ولداً، أو شريكاً، أو صاحبة {وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَاءهُ}، وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرّماته، وإخبارهم بالبعث، والنشور، وما أعدّ الله للمطيع، والعاصي. ثم استفهم سبحانه استفهاماً تقريرياً، فقال: {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} أي: أليس لهؤلاء المفترين المكذّبين بالصدق، والمثوى: المقام، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوى ثواء، وثوياً، مثل مضى مضاء، ومضياً.
وحكى أبو عبيد أنه يقال: أثوى، وأنشد قول الأعشى:
أثوى وأقصر ليله ليزودا *** ومضى وأخلف من قُتَيْلَةَ موعدا
وأنكر ذلك الأصمعي، وقال: لا نعرف أثوى. ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدّقين، فقال: {والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} الموصول في موضع رفع بالابتداء، وهو: عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تابعه، وخبره: {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون}، وقيل: الذي جاء بالصدق رسول الله، والذي صدّق به أبو بكر.
وقال مجاهد: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدّق به عليّ بن أبي طالب.
وقال السدّي: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدّق به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة، ومقاتل، وابن زيد: الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدّق به المؤمنون.
وقال النخعي: الذي جاء بالصدق، وصدّق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة. وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله، وأرشد إلى ما شرعه لعباده، واختار هذا ابن جرير، وهو: الذي اختاره من هذه الأقوال، ويؤيده قراءة ابن مسعود: {والذين جاءوا بالصدق وصدّقوا به}. ولفظ {الذي} كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفرداً، فمعناه: الجمع، لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} أي: المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة. وقرأ أبو صالح: {وصدق به} مخففاً، أي: صدق به الناس. ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدّقين في الآخرة، فقال: {لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ} أي: لهم كل ما يشاءونه من رفع الدرجات، ودفع المضرّات، وتكفير السيئات، وفي هذا ترغيب عظيم، وتشويق بالغ، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدم ذكره من جزائهم، وهو: مبتدأ، وخبره قوله: {جَزَاء المحسنين} أي: الذين أحسنوا في أعمالهم.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» ثم بيّن سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم، فقال: {لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ}، فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم؛ لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى، واللام متعلقة بيشاءون، أو بالمحسنين، أو بمحذوف. قرأ الجمهور: {أسوأ} على أنه أفعل تفضيل. وقيل: ليست للتفضيل بل بمعنى: سيء الذي عملوا. وقرأ ابن كثير في رواية عنه أسواء بألف بين الهمزة، والواو بزنة أجمال جمع سوء. {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لما ذكر سبحانه ما يدلّ على دفع المضارّ عنهم ذكر ما يدلّ على جلب أعظم المنافع إليهم، وإضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه، بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصداً إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل. قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوئ.
وقد أخرج الآجرّي، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} قال: غير مخلوق.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً} الآية قال: الرجل يعبد آلهة شتى، فهذا مثل ضربه الله لأهل الأوثان {وَرَجُلاً سَلَماً} يعبد إلها واحداً ضرب لنفسه مثلاً.
وأخرجا عنه أيضاً في قوله: {وَرَجُلاً سَلَماً} قال: ليس لأحد فيه شيء.
وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عمر قال: لقد لبثنا برهة من دهرنا، ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا، وفي أهل الكتابين من قبلنا {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} الآية، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا.
وأخرج نعيم بن حماد في الفتن، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً قال: نزلت علينا الآية {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}، وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا: هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه.
وأخرج عبد الرّزاق، وأحمد، وابن منيع، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوّام قال: لما نزلت: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قلت: يا رسول الله أيكرّر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواصّ الذنوب؟ قال: «نعم ليكرّرن عليكم ذلك حتى يؤدى إلى كل ذي حقّ حقه. قال الزبير: فوالله إن الأمر لشديد».
وأخرج سعيد بن منصور، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين، وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {والذى جَاء بالصدق} يعني: بلا إله إلا الله {وَصَدَّقَ بِهِ} يعني: برسول الله صلى الله عليه وسلم {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} يعني: اتقوا الشرك.
وأخرج ابن جرير، والباوردي في معرفة الصحابة، وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان، وله صحبة عن عليّ بن أبي طالب قال: الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصدّق به أبو بكر.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مثله.


قوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} قرأ الجمهور: {عبده} بالإفراد. وقرأ حمزة، والكسائي: {عباده} بالجمع، فعلى القراءة الأولى المراد: النبي صلى الله عليه وسلم، أو الجنس، ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أوّلياً، وعلى القراءة الأخرى المراد: الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع، واختار أبو عبيد قراءة الجمهور، لقوله عقبه: {ويخوّفونك}، والاستفهام للإنكار لعدم كفايته سبحانه على أبلغ وجه كأنها بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد أن ينكره. وقيل: المراد بالعبد، والعباد: ما يعمّ المسلم، والكافر. قال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن، وعبده الكافر هذا بالثواب، وهذا بالعقاب. وقرئ: {بكافي عباده} بالإضافة، وقرئ: {يكافي} بصيغة المضارع، وقوله: {وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} يجوز أن يكون في محل نصب على الحال، إذ المعنى: أليس كافيك حال تخويفهم إياك؟ ويجوز أن تكون مستأنفة، والذين من دونه عبارة عن المعبودات التي يعبدونها {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: من حقّ عليه القضاء بضلاله، فما له من هاد يهديه إلى الرّشد، ويخرجه من الضلالة. {وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ} يخرجه من الهداية، ويوقعه في الضلالة {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ} أي: غالب لكل شيء قاهر له {ذِى انتقام} ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه، وما ينزله بهم من سوط عقابه.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} ذكر سبحانه اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأن الله سبحانه مع عبادتهم للأوثان، واتخاذهم الآلهة من دون الله، وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة، وجهالة عظيمة؛ لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم، ولما يعبدون من دون الله هو: الله سبحانه، فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل، وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول، وكمال الإدراك، والفطنة التامة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم، وأحسنوا الظنّ بهم هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكتهم بعد هذا الاعتراف، ويوبخهم، فقال: {قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ} أي: أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضرّ، والضرّ هو: الشدّة، أو أعلى {أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} عنِّي بحيث لا تصل إليّ، والرحمة النعمة، والرّخاء. قرأ الجمهور ممسكات، وكاشفات في الموضعين بالإضافة، وقرأهما أبو عمرو، بالتنوين. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسكتوا، وقال غيره: قالوا: لا تدفع شيئاً من قدر الله، ولكنها تشفع، فنزل: {قُلْ حَسْبِىَ الله} في جميع أموري في جلب النفع، ودفع الضرّ {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} أي: عليه، لا على غيره يعتمد المعتمدون، واختار أبو عبيد، وأبو حاتم قراءة أبي عمرو، لأن كاشفات اسم فاعل في معنى: الاستقبال، وما كان كذلك، فتنوينه أجود، وبها قرأ الحسن، وعاصم.
ثم أمره سبحانه أن يهدّدهم، ويتوعدهم، فقال: {قُلْ ياقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} أي: على حالتكم التي أنتم عليها، وتمكنتم منها {إِنّى عامل} أي: على حالتي التي أنا عليها، وتمكنت منها، وحذف ذلك للعلم به مما قبله {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: يهينه، ويذله في الدنيا، فيظهر عند ذلك أنه المبطل، وخصمه المحقّ، والمراد بهذا العذاب عذاب: الدنيا، وما حلّ بهم من القتل، والأسر، والقهر، والذلة. ثم ذكر عذاب الآخرة، فقال: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي: دائم مستمرّ في الدار الآخرة، وهو: عذاب النار. ثم لما كان يعظم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إصرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان، لا بأن يهدي من ضلّ، فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ} أي: لأجلهم، ولبيان ما كلفوا به، و{بالحق} حال من الفاعل، أو المفعول، أي: محقين، أو ملتبساً بالحقّ {فَمَنُ اهتدى} طريق الحق، وسلكها {فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ} عنها {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: على نفسه، فضرر ذلك عليه لا يتعدّى إلى غيره {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي: بمكلف بهدايتهم مخاطب بها، بل ليس عليك إلا البلاغ، وقد فعلت. وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف، فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويعملوا بأحكام الإسلام.
ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته البالغة، وصنعته العجيبة، فقال: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} أي: يقبضها عند حضور أجلها، ويخرجها من الأبدان {والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت، أي: لم يحضر أجلها في منامها.
وقد اختلف في هذا. فقيل: يقبضها عن التصرّف مع بقاء الروح في الجسد.
وقال الفراء: المعنى: ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها قال: وقد يكون توفيها نومها، فيكون التقدير على هذا: والتي لم تمت، وفاتها نومها. قال الزجاج: لكل إنسان نفسان: أحدهما: نفس التمييز، وهي التي تفارقه إذا نام، فلا يعقل، والأخرى: نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. قال القشيري: في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد، ولهذا قال: {فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى} أي: النائمة {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}، وهو الوقت المضروب لموته، وقد قال بمثل قول الزجاج: ابن الأنباري.
وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف {فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى}، فيعيدها، والأولى أن يقال: إن توفي الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس، وحصول الآفة به في محل الحسّ، فيمسك التي قضى عليها الموت، ولا يردّها إلى الجسد الذي كانت فيه، ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها. قيل: ومعنى {يَتَوَفَّى الأنفس عِندَ مَوْتِهَا}: هو على حذف مضاف، أي: عند موت أجسادها.
وقد اختلف العقلاء في النفس، والروح هل هما شيء واحد، أو شيئان؟ والكلام في ذلك يطول جدًّا، وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن. قرأ الجمهور: {قضى} مبنياً للفاعل، أي: قضى الله عليها الموت، وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول، واختار أبو عبيد، وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس}، والإشارة بقوله: {إِنَّ فِى ذَلِكَ} إلى ما تقدّم من التوفي، والإمساك، والإرسال للنفوس {لآيَاتٍ} أي: لآيات عجيبة بديعة دالة على القدرة الباهرة، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في ذلك، ويتدبرونه، ويستدلون به على توحيد الله، وكمال قدرته. فإن في هذا التوفي، والإمساك، والإرسال موعظة للمتعظين، وتذكرة للمتذكرين.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} الآية قال: نفس، وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامه، ويدع الروح في جوفه تتقلب، وتعيش، فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح، فمات. وإن أخر أجله ردّ النفس إلى مكانها من جوفه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه في الآية قال: تلتقي أرواح الأحياء، وأرواح الأموات في المنام، فيتساءلون بينهم ما شاء الله، ثم يمسك الله أرواح الأموات، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} لا يغلط بشيء منها، فذلك قوله: {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً في الآية قال: كل نفس لها سبب تجري فيه، فإذا قضى عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب، والتي لم تمت في منامها تترك.
وأخرج البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي، وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي، فارحمها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين».

1 | 2 | 3 | 4